السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سوف انقل لكم ان شاء الله مواد للتربية الروحية , وهي ان شاء الله ستقدم على حلقات.وهي بعض من حكم ابن عطاء الله السكندري مع شرحها :" إذا أردت أن تعرف قدرك عنده .. فانظر: فيما يقيمك ؟"
هذه الحكمة تعطي الإنسان ميزانين : أحدهما عام والآخر خاص ، الميزان العام يتناول طبيعة العباد : فكل إنسان يختار لنفسه دورا ورسالة في الحياة ، أدرك ذلك أم غفل عنه ، أناس غلب عليهم حب الخيرات وعمل الصالحات ، وآخرون إختاروا لأنفسهم الشر والفساد ، فطوبى لمن خلقه الله للخير وأجري الخير على يديه ، وويل لمن اختار الشر، وجري الشر على يده ، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده " (صحيح الجامع الصغير) ، وفي الأثر : " من أراد أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله تعالى من قلبه ، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزله العبد من نفسه " .
فانظر أيها السائر في أحوالك … فإن كنت ممن تعظم أمر الله وتحسن الظن به ، تمتثل أمره وتجتنب نهيه ، وتسارع في مرضاته وتتحبب إلى أوليائه ، فأنت من المكرمين ، خاصة إذا وجدت شيخا مربيا فهي بشارة طيبة ، لأنه يقال أن الله لا يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه ... وأما إن كنت تتهاون في أمره وتتساهل في نواهيه ، وتتكاسل عن طاعته وتهتك حرماته وتعادي أولياءه ، فأنت من المهانين إلا أن تداركتك عناية من رب العالمين .…
والميزان الخاص يتناول ساعات العبد وأوقاته ، فعليك أن تراجع نفسك الحين بعد الحين ، وتنظر إلى العمل الذي بين يديك ، وتزنه بميزان هذه الحكمة ، فتستبشر بالخير وتزيد إن كانت أوقاتك في الصلاح ، أو تنزجر وتعود وتنيب إذا كانت في غير ذلك
2
" الغافل إذا أصبح نظر ماذا يفعل ، والعاقل ينظر : ماذا يفعل الله به "
الغافل إذا أصبح نظر ماذا يفعل بنفسه ، فيدبر شؤونه ومآربه بعقله وبحدسه ، فهو ناظر لفعله ، معتمد على حوله وقوته ، فإذا فسخ القضاء ما أبرمه ، وهدم له ما أمله ، غضب وسخط وحزن وقنط، فنازع ربه وأساء أدبه ، فلا جرم أنه يستحق من الله البعد ، ويستوجب في قلبه الوحشة والطرد ، إلا إن حصل له إياب ، وتذكر وأناب ، وأدام الوقوف بالباب حتى يلحق بأولي الألباب ، الذين فهموا أن كل ما يقضيه لهم ربهم .. إنما هو الخير لهم . وأما العاقل وهو العارف فلا يمر بذلك ، فقد تحققت في قلبه عظمة ربه وانجمع إليه بكلية قلبه ، فأشرقت في قلبه شموس العرفان وطوى من نظره وجود الأكوان ، فليس له عن نفسه أخبار ولا مع غير الله قرار، تصرفه بالله ومن الله وإلى الله ، فقد فني عن نفسه وبقي بربه فلم ير لها تركا ولا فعلا ولا قوة ولا حولا ، فإذا أصبح نظر ماذا يفعل الله به ، فتلقى كل ما يرد عليه بالفرح والسرور والبهجة والحبور لما هجم عليه من حق اليقين والغنى برب العالمين ... قال عمر بن عبد العزيز : " أصبحت ومالي سرور إلا مواقع القدر ". وقال أبو عثمان : " منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته ، ولا نقلني إلى غيره فسخطه" . فإذا أراد العبد أن يكون تصرفه بالله فلينعزل عن حظوظه وهواه ، فإذا أراد أن يفعل أمرا فليتأن ويصبر ويستمع إلى الهاتف ، فإن الله سبحانه وتعالى يسمعه ما يريد أن يتوجه إليه فعلا أو تركا ، قال ابن عجيبة عن نفسه : وقد جربنا هذا في سفرنا وإقامتنا فكنا لا نتصرف إلا بإذن خاص والحمد لله . فعليك أيها المريد بالاعتناء بهذا الأمر ، وبملازمة الأدعية التي تكسب الرضا والتسليم ، والمقصود منها تدبر معانيها لا مجرد ألفاظها ، فالمراد المعاني لا الأواني ... فقد ورد في الأثر : " اللهم إني أصبحت لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني ولا أتقي إلا ما وقيتني ، فوفقني اللهم لما ترضاه مني من القول والفعل ، وفي عافية وستر ، إنك على كل شئ قدير " ، ( وفي رواية : لما تحبه وترضاه من القول والعمل في طاعتك إنك ذو الفضل العظيم ) وكالدعاء المنسوب لعيسى عليه السلام ، وورد في الإحياء ، تعبيرا عن هذا المعنى : " اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيد غيري ، وأصبحت مرتهنا بعملي ، فلا فقير أفقر مني ، اللهم لا تشمت بي عدوي ، ولا تسئ بي صديقي ، ولا تجعل مصيبتي في ديني ، ولا تجعل الدنيا أكبر همي ، ولا تسلط علي من لا يرحمني يا حي يا قيوم " .. وفي هذا المعنى كان دعاء أبي الحسن الشاذلي : " اللهم إن الأمر عندك ... وهو محجوب عني ولا أعلم أمرا أختاره لنفسي ، فكن أنت المختار لي ، واحملني في أجمل الأمور عندك ، وأحمدها عاقبة في الدين والدنيا والآخرة إنك على كل شئ قدير " يقول الدكتور البوطي (بتصرف) : " يجب على المسلم أن يعلم أنه لا يستقل بأمر نفسه في أفعاله ، وإنما هو مقود بقرار الله وقضائه ، وبعونه وبتدبيره ، والتخطيط في حياة المسلم أمر مندوب ، وهو من عالم النوايا التي يجازى عليها ، وهي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذن فلا حرج أن يخطط المسلم ليومه – بل ذلك هو الأولى - ولكن عليه أن يعلم أن التنفيذ الفعلي لذلك التخطيط يتوقف على توفيق الله وقضائه وقدره ، ولعل الحيلولة بين المرء وما أراد في أمر ما هو كل الخير ، لأن الإنسان علمه محدود ، والمؤمن الحق لا يكون إلا واثقا بحكمة الله ورحمته ، وأن ما اختاره الله له هو الخير ، وإن كان ظاهره على خلاف ذلك ، قال تعالى : " فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " ، وحتى في الأمور التي لايستبين له ولا لغيره وجه الخير فيها ، فإن المسلم قد يرى فيها تربية من الله له ، وإيقاظ له من الغفلة إلى مزيد من الإنضباط ، فهي وإن تلقاها ضربات موجعة ، ولكنها كعصى المؤدب ، قال الشاعر : فقسى ليزدجروا ، ومن يك راحما فليقس أحيانا على من يرحم " ورحم لله من قال : ورب مكروه عندك نعمة ، نجاك الله به من نقمة ، وأحلك به صهوة القمة ، فلا تكره ما قدره الله وأتمه ... فالعاقل أول خاطر يرد عليه نسبة الفعل إلى الله فيقول : ماذا يفعل الله بي ، فهو ناظر إلى الله تعالى ، وإلى ما يرد عليه منه ... فانظر إذا استقبلك شغل ... فإن عاد قلبك في أول وهلة إلى حولك وقوتك فأنت المنقطع عنه ، وإن عاد قلبك إلى الله فأنت الواصل إلى الله .. وكل العالم في قبضته سبحانه ... واعتبر بعمرة الحديبية ، وذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم عند بروك ناقته لما أراد توجيهها إلى البيت الحرام قال : إنما حبسها حابس الفيل ، ولا تدعوني اليوم قريش إلى خطة فيها صلة رحم إلا أجبتهم إليها " ، وكان ما تم وأنزل الله سورة الفتح ، فظهرت بعد ذلك الفوائد التي تضمنها ذلك التدبير والتقدير الحسن
3
" متى جعلك في الظاهر ممتثلا لأمره وفي الباطن مستسلما لقهره فقد أعظم المنة عليك "
إنه استسلام العبد لكل ما قضى الله به في حقه ، في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، قال تعالى : " ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وإلى الله عاقبة الأمور" ( لقمان 22 ) فمتى جعلك أيها الإنسان في الظاهر ممتثلا لأمره ومجتنبا لنهيه ، وفي الباطن مستسلما لقهره ( الشدائد والصعاب على اختلافها ) ، فقد أعظم المنة عليك ، حيث أراح ظاهرك من عنت المخالفة ، وأراح باطنك من تعب المنازعة " والله ذو الفضل العظيم " . يقول الدكتور البوطي (بتصرف) : " المراد بالاستسلام هنا الصبر مع الرضا على ما قضى به الله عز وجل ، وهذا الرضا من أحوال الباطن ، أما الاستسلام القسري الذي يشترك فيه الناس جميعا ، فهو مظهر لضعف الإنسان وعجزه عن رد ما قد قضى الله عليه به ، وهو ليس أمرا باطنيا ، بل هو من أحوال الظاهر ... والتكاليف التي خاطبنا الله بها هي الأخرى صنف من أصناف تلك الشدائد ، ولولا ذلك لما سميت بالتكاليف .. والرضا بالشيء لا يتنافى مع ما قد يجده الراضي من الآلام بسببه ، ألا ترى المريض كيف يرضى بإجراء العمل الجراحي الذي لابد له منه مع ما يعلم من تسببه لآلام ومزعجات شتى ؟ وفي هذه الحالة لابد أن يجتمع الرضا مع الصبر .. ينبثق الرضا من قرار العقل وحكمته ، وينبثق الصبر من واقع الألم وضروراته "
4
" لا يخاف عليك أن تلتبس الطرق عليك وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك "
الطرق : هي السبل الموصلة إلى مرضاة الله عز وجل ، وهي في أصلها سبيل واحد ، لا ثاني له ، قال تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " (الأنعام 153) ، ولعله لذلك السبب تأتي كلمة الظلام في كتاب الله دائما بلغة الجمع (ظلمات) ، ولا يأتي النور إلا مفردا . الهوى : هو الشيء الذي يقابل العقل ويقابل الدين وتميل إليه النفس . لاشك أن الله سبحانه بين لنا طريق الوصول ، عبر آيات الكتاب الحكيم ، وعلى لسان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، فما ترك عليه الصلاة والسلام شيئا يقربنا إلى الله إلا ودلنا عليه ، ولا شيئا يبعدنا عنه إلا حذرنا منه ، فما رحل إلى الله تعالى حتى ترك الناس على الدين القويم والمنهاج المستقيم ، على طريق بيضاء لا يضل عنها إلا من كان أعمى ، قال تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " (المائدة 3) وقال تعالى : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " (البقرة 256) وفي الأثر : " لقد تركتكم على الحنيفية السمحة " ، وفي رواية : " على الملة البيضاء نهارها كليلها " . وقال أحدهم : من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له . فلا يخاف عليك التباس الهدى ، إنما يخاف عليك إتباع الهوى .. فلا يخاف عليك التباس الحق ، وإنما يخاف عليك جهلة الخلق ... قال تعالى : " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سييل الله ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون" (الأنعام 116) .. فلا يخاف عليك عدم وجود أهل التحقيق ، وإنما يخاف عليك قطاع الطريق … فإذا التبس الأمر ، فلينظر المسلم إلى الأقرب إلى الهوى فيخالفه ، وعلى الإنسان أن يكون دائم الحذر يحاسب نفسه دائما ، هل هو سائر في طريق ما كأثر من آثار الهوى ، أو كأثر من آثار حظوظ النفس ،
وليحاول أن يرجع إلى الحق الصريح الواضح وليستعن بالله .
5
" من علامة النجاح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات "
إذا توجهت همتك أيها المريد إلى طلب شئ ، أي شئ كان ، وأردت أن ينجح أمره ، وتبلغ مرادك فيه ، وتكون نهايته حسنة وعاقبته محمودة ، فارجع إلى الله في بداية طلبه ، وانسلخ من حولك وقوتك ، وقل كما قال عليه الصلاة والسلام : " إن يكن هذا من عند الله يمضه " (صحيح الجامع الصغير) ، فلا تحرص عليه ولا تهتم بشأنه ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ ربنا لم يكن ، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن ينفعوك بشيء لم يقدره الله لك لم يقدروا على ذلك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقدره الله عليك لم يقدروا على ذلك ، جفت الأقلام ، وطويت الصحف . وتأمل هذا الحديث الجامع : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، إحرص على ماينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا و كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان " ( رواه مسلم ) ، ولاحظ قوله عليه الصلاة والسلام : " استعن بالله ولاتعجز " فقد قدم الأمر بالإستعانة بالله ، على النهي عن العجز ، لكي يعلم الإنسان أن سبيل تخلصه من العجز إنما هو الإستعانة بالله عز وجل . فإذا طلبت شيئا وكنت فيه معتمدا على الله ومفوضا أمرك إليه سبحانه كان ذلك علامة نجاح نهايتك وحصول مطلبك قضيت في الحس أو لم تقض ، لأن مرادك مع مراد الله… لا تشتهي إلا ما قضى الله ، ولا تنظر إلا ما برز من عند الله . ومن الرجوع إلى الله في البداية أن يحكم الأصل الشرعي من نقطة الانطلاق ، وبالإستشارة والاستخارة … فأي قضية مباحة تحتاج إلى استشارة واستخارة ، ويتخير لاستشارته الأمين العليم الكتوم
6
" من أشرقت بدايته أشرقت نهايته "
إشراق البداية : هو الدخول فيها بالله ، وطلبها بالله ، والاعتماد فيها على الله ، مع السعي في أسبابها والاعتناء في طلبها ، ويعظم السعي في السبب بقدر عظمة المطلب ، فبقدر المجاهدة تكون بعدها الهداية والعاقبة الحسنة ، قال تعالى : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت 69) وقال تعالى : " إن رحمة الله قريب من المحسنين " (الأعراف 56) فمن رأيناه في بدايته جادا في طلب الحق، مستغرقا في خدمة مولاه ناسيا لحظوظه وهواه ، علمنا أن نهايته مشرقة وعاقبته محمودة ومآربه مقضية … وأما إشراق البداية في طلب حوائج الدنيا بعد أخذ الأسباب الشرعية في طلبها ، فهو بالزهد فيها والإعراض عنها ، والانشغال بالله عنها حتى تقضى بإذن الله ..